10.8.10

دوائر ناقصة

Water_by_Nova_FoV

(دوائر أختي الناقصة) قصّة للقاص زياد خدّاش منشورة في مجموعته القصصية الأخيرة (خذيني إلى موتي)، القصّة باختصار.. منال في أواخر العقد الثاني من عمرها، غير قادرة على التواصل لغةً مع الآخرين، لكنها تضحك معهم وتبكي حين يبكون على لقطة في مسلسل عربي حزين، موهبتها تكمن في رسم دوائر ناقصة على الورق، وفي أحد أيام منع التجول، بعد جفافِ حبرِ أقلاِمها، أحضر لها أخوها "سطل فحم" وأشار لها على الجدار.. فراحت "ترسم دوائرها المجنونة هناك بخط أسود كبير وثقيل"..دوائر منال ناقصة، دائماً هناك ثغرة في محيط الدائرة!

وتنتهي القصة بأن يدخل إلى غرفة منال، أخوها، بعد ليلة أرق.. ويحاول إيقاظها لكنها لا تستيقظ، والمدهش أن جدران الغرفة الأربعة، تحضن دوائر عملاقة خطوطها متعرجة. دوائر عملاقة مكتملة تماماً. وأخته منال لا تستيقظ.

قصة أخرى، من أحد الأفلام الأجنبية. المكان مستشفى للدعمِ النفسي! توجد فتيات كثيرات مصابات بأمراضٍ نفسيَّةٍ مختلفة، تهرب فتاتان من مستشفي الأمراض العصبية، وتذهبان إلى بيتِ صديقة غادرت المستشفى قبل فترة قريبة، إحدى الهاربتين تكتشف جروح في يدِ صاحبة البيت، فتصارِح الضيفة صاحبَة البيتِ بأنها تعرف كثير من التفاصيل، مثل أنها تستلذ بتعذيب نفسها، وأنها تتعامل مع حبّة الدّواء المسكن كرجل تلتهمه، وأنها حين لا تأكل إلا مما يطبخه والدها فهي تفعل ذلكَ بشكلٍ رمزي، أي أنها لن تقيم علاقة مع أي رجل إلا والدها، وأن تعذيبها لجسدها من الخارج، هو نافذتها الوحيدة لتعذيب داخلها في إقامة علاقة مع أبيها.

بعد هذا الحوار، تستأذن صاحبة البيت، وتصعد إلى غرفتها في الطابق الأعلى. وتكتشِفُ الضيفتانِ صباحاً أن صاحبَة البيتِ قد انتحرت!

لماذا ماتت "منال" في قصّة زياد خدّاش، ولماذا انتحرت فتاةُ الفلم؟

منال، بالرغم من أن القصَّة تقول إن ملامح وجهها مشروع ملغي أو غير مكتمل لجمال خاص، ليتوهَّم القارئ بأن دوائرها "غير المكتملة" انعكاس لجمالها الخاص، وبشكل آخر أن "منال" حين وصلت إلى جمالِها المكتمل؛ "غابت عنِ الدنيا".

والجمال المكتمل/المطلق هو بالتأكيد عند زياد خدّاش يرادِفُ (الموت). وهذا واضِح من عنوان مجموعتِه القصصية "خذيني إلى موتي". ويمكن ملاحظة مدى الراحلة والبساطة في فعل الأمر (خذيني) المتناقض مع (الموت). لكن الموت، باعتقادي، هو منطقة جماليّة ومختلفَة عند زياد خدّاش، وهذا ليسَ تشاؤماً..! لأن الموتَ ليسَ منطقة خلاص، بل منطقة بحثٍ جمالي مطلق، لذلك يكون الموتُ، غالباً، بسيطاً فهو يقول لها في قصّة أخرى: "تعالي إذن نموت معاً (...) قفي على الهاوية، حافية وراكضة بلا جدران، بلا رجال بلا ذاكرة وبلا مساءك الأخير، لا تخافي فالهاوية طيبة وثقيلة ومتفهمة، ولا تثرثر كثيراً، ثمة فرصة للضحك..."، ويمكن ملاحظة دعوة الموت، أو "الهاوية" وارتباطها بالتالي: (حافية، راكضة، طيبة، متفهّمة، لا تثرثر كثيراً، ضاحِكة..)!!

هي إذن ليست دعوة للانتحار، بل دعوة لفهم الذات والبحث عن جمالِها الخاص.

ما الذي قتل منال؟ الذي قتلها برأيي هذه الجملة.. (خرجتُ من الغرفة باتجاه المطبخ، باحثاً عن حجة كاذبة لأرقي أو سبب، مررت عن غرفة منال، قلتُ في نفسي: لم لا أوقظها؟ سنرسم معاً دوائرنا)

هذه الجملة يتبعها فتح للباب واكتشاف أن منال نائمة، وأن دوائرها عملاقة ومرتبكة ومكتملة في آن. وحين يحاول إيقاظها لا تستيقظ.

(سنرسم معاً دوائرنا)..

الأخ الذي كان محايداً في البداية ويتأمل الدوائر الناقصة، ويحلم بها، أصبح بعيداً عن منطقة المشاهدة، وقريباً إلى الانغِماس في "ممارسة الفعل"، يريد أن يكون فاعِلاً بالاشتراك معها، لذلك فالفاعل لفعل (نرسم)، هو ضمير غائب تقديره "نحن". ومعاً تفيد المشاركة. والأخطر برأيي هو إسناد "دوائر" إلى "نا" الفاعلين. قبل ذلك، كانت الدوائر الناقِصة مسندة فقط إلى أختِه (دوائر أختي).

"منال" لا ترفض المشاركة، لأنَّ أخاها، يقول "وضعتُ يدي فوقَ يدها، ومشيتُ بيدها في منحنيات دائرةٍ كبيرة.." أي أنهما اشتركا في إنجازِ فعلٍ سابِق. لكنّها ترفض أن تكون المشاركة، مزاجيّة، ومبنيَّة على شروطٍ مسبقة من أخيها، فالأخ الذي يبحثُ "عن حجَّةٍ كاذبَةٍ لأرقه" حاول أن يروّح عن نفسِه بالمشاركة مع أختِه. ولأن شرطَ الموافقة والمشاركة في "رسم الدوائر" وإسناد الناتج لهما معاً، نابِع عن "أرق" الأخ فقط. فقد قررت "منال" أن تموت.

ربما كان موت الأخت "قبل" التفكير "بجملة القتل" (سنرسم معاً دوائرنا). لكن زمن القصص عند زياد خدّاش مفتوح ومتداخل لذلك أرى أن منال البنت التي "كانت ستصير امرأة سمراء وطويلة. جميلة ومثقفة"، قررت أن تموتَ باختيارِها الحرّ، حينَ رأت أن أحدَهم قرر "في لحظة ملل" أن يشارِكها منجزَها الجمالي.

أما الفتاة المريضة المنتحرة، فلم تقدم على الانتحار لأن "صديقتها" أهانتها، وأخبرتها بحقيقتِها الماسوشية، أو أنها تمارس الجنس مع والدها، هذا آخر ما كانت تفكر فيه الفتاة حين وضعت رأسها في الحبل المربوط في السقف.

برأيي، كانت تشعر أنها فارغة، ولا تملك سرّاً خاصّاً بها. لذلك حين انتهت "صديقتها" من كلامِها شعرت أن داخلها يطابِقُ خارجها، وأن أسرارها التي تحتفظ بها عميقاً في داخِلها قد انتقلت لجسد صديقتها. وهذا خطير إلى درجة الشعور باللاجدوى. أن تكون فارغاً من أيِّ شيء. وأن تكونَ شفافاً إلى درجة أن يسمع الواقفُ أمامك الأفكارَ الباطنيّة في عقلك.

لذلك كان الموت هو العلاج. وانتهت مرحلة "علاج الخارج ليرتاح الداخل" إلى قتل الخارج والداخل معاً، لأنهما متشابِهان أمام الآخر.

أتحدّث عن منطقة خاصّة سرّية، هذه المنطقة تحتوي على تفسير حبِّ الإنسان للكتاب هذا، وعدم اهتمامهِ بالآنسة فلان. تحتوي على أسبابِ الوجود. وإذا ما تم الكشف عن هذه "المنطقة الخاصّة" من قبل الآخرين، فبالتأكيد سيتم توقّع أفعال الإنسان التالية، وبذلك فلاجدوى من أيِّ فعلٍ لا يستطيع إدهاشَ الآخرين، فما بالك بكل أفعاله التالية المكشوفة مسبقاً.

هذه الفتاة كانت تستطيع أن تغادر المدينة التي تسكنها، أو تقوم بقتل "صديقتها"، وفي الحالتين تبقى "منطقتها السريّة" بعيدة عن أنظار الآخرين. لكنها لم تهاجر؛ لأن وجود من يستطيع التنبؤ بأفعالها، حتى ولو كان في مكانٍ آخر، وجوده يقتل المتعة في الفعل والممارسة الآنيّة.

ولم تقتل "صديقتها" لأنها لا تضمن أن صديقتها احتفظتْ بكلامِها لنفسها. ولا تضمن كذلك أن يأتي لها الزّمان بإنسانٍ يشبِه صديقتها، ويستطيع الولوج إلى "منطقتها السّرية الخاصة" وكشفها. لذلك كان الأجدر بها أن تزيلَ نفسها عن الوجود. فانتحرت.

الموت لدي الشخصيَّتين السابقتين، لم ينتج عن قمعٍ وعنفٍ ماديٍّ يمْكِنُ رصدَه، هو نتاج عنف معنويٍّ خلخلَ اتّزان الفتاة مع واقِعها المعاش، ومسَّ أفكارَها وقناعتها، وأجبرها على البقاءِ رهينَة واقعٍ مغايرٍ ترفضه ولا تشعر براحةٍ معه. لا يهم هنا جنسِ المعنِّف، رجل كان أو امرأة، بل الأهم هو النظر إلى ناتج عمليّة العنف، ومصير المعنَّف. المرأة هنا تسعى، بشكلٍ خَطِير، إلى موتِها راغِبةً وهانئة!

هناك 4 تعليقات:

ثرثرة ليس إلا يقول...

لعل الدوائر الناقصة حياة ناقصة ودورة لم تكتمل واكتمالها يعني النهاية.. استشعرت نهايتها فرسمتها مكتملة.. فهمت أن لا أحدا سيشاركها حتى مجرد الرسم.. وما الرسم على الجدار الا مجازا تشارك اهتمامات حياتيه..
الثانية اغتالت ذاتها ولم تقتل صديقتها.. لانها لم تقوى ولن تقوى على مزيد من الخطايا.. فأخذت ذاتها للموت علها تجد حياة أفضل

غير معرف يقول...

Awesome post. Do you mind if I ask what your source is for this information?

غير معرف يقول...

lan party

غير معرف يقول...

هذه المادة هي المرجعية تستحق في رأيي. انه يستحق الادخار للرجوع إليها في المستقبل. انها قراءة رائعة مع العديد من النقاط الصحيحة للتأمل. لقد لنتفق على كل نقطة تقريبا في غضون هذه المقالة.